: مكانته
العلمية:
اتفقت كلمة المترجمين له على أنه من أئمة زمانه، فقد أطلق
عليه كل من الإمامين: مالك وسفيان بن عيينة وصف إمام ، وقال فيه مجاهد: أتيناه
نعلمه فما برحنا حتى تعلمَّنا منه ، وقال ميمون بن مهران: كان عمر بن عبد العزيز
معلمَّ العلماء ، قال فيه الذهبي: كان إماماً فقيهاً مجتهداً، عارفاً بالسنن، كبير
الشأن، حافظاً، قانتاً لله أوَّاهاً منيباً يعد في حسن السيرة والقيام بالقسط مع
جده لأمه عمر، وفي الزهد مع الحسن البصري وفي العلم مع الزهري ، وقد احتج الفقهاء
والعلماء بقوله وفعله ومن ذلك رسالة الإمام الليث بن سعد إلى الإمام مالك بن أنس
رضي الله عنهما وهي رسالة قصيرة وفيها يحتج الليث ـ مراراً ـ بصحة قوله، بقول عمر
بن عبد العزيز على مالك فيما ذهب إليه في بعض مسائله ، ويرد ذكر عمر بن عبد العزيز
في كتب الفقه للمذاهب الأربعة المتبوعة على سبيل الاحتجاج بمذهبه، فاستدل الحنفية
بصنيعه في كثير من المسائل وجعلوا له وصفاً يتميَّز به عن جدّه لأمه: عمر بن الخطاب
رضي الله عنه قال القرشي في الجواهر المضيئة: فائدة يقول: أصحابنا في كتبهم في
مسائل الخلاف: وهو قول عمر الصغير. يريدون به عمر بن عبد العزيز الإمام الخليفة
المشهور ، ويكثر الشافعية من ذكره في كتبهم ولذلك ترجم له الإمام النووي ترجمة
حافلة في تهذيب الأسماء واللغات وقال في أولها: تكرر في المختصر والمهذب . وأما
المالكية فيكثرون من ذكره في كتبهم أكثر من غيرهم، ومالك إمام المذهب ذكر في
((الموطأ)) محتجاً بفتواه وقوله في مواضع عديدة في موطئه ، وأما الحنابلة فكذلك،
يذكرونه كثير، وعمر هو الذي قال فيه الإمام أحمد: لا أدري قول أحد من التابعين حجة
إلا قول عمر بن عبد العزيز وكفاه هذا ، وكفانا قول الإمام أحمد أيضاً: إذا رأيت
الرجل يحب عمر بن عبد العزيز ويذكر محاسنه وينشرها فاعلم أن من وراء ذلك خيراً إن
شاء الله ، ومن أراد أن يتبحر في علم عمر بن عبد العزيز ويعرف مكانته العلمية،
فليراجع الكتب الآتية: الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة للأستاذ
حياة محمد جبر والكتاب في مجلدين، وهي رسالة علمية وكذلك فقه عمر بن عبد العزيز
للدكتور محمد سعد شقير في مجلدين وهي رسالة علمية نال بها المؤلف درجة الدكتوراه،
وموسوعة فقه عمر بن عبد العزيز لمحمد رواس قلعجي وسوف نرى في بحثنا فقه عمر بن عبد
العزيز بإذن الله تعالى في العقائد والعبادات والسياسة الشرعية، وإدارة الدولة،
والنظم المالية والقضائية والدعوية وتقيده بالكتاب والسنة والخلفاء الراشدين في
خطواته وسكناته.
رابعاً : عمر في عهد الوليد بن عبد
الملك:
يعد عمر بن عبد العزيز من العلماء الذين تميزوا بقربهم من
الخلفاء وكان لهم أثر كبير في نصحهم وتوجيه سياستهم بالرأي والمشورة ويحتل عمر بن
عبد العزيز مكانة متميزة في البيت الأموي، فقد كان عبد الملك يجله ويعجب بنباهته
أثناء شبابه مما جعله يقدمه على كثير من أبنائه ويزوجه من ابنته، ولكن لم يكن له
مشاركات في عهد عبد الملك بسبب صغر سنه واشتغاله بطلب العلم في المدينة، ومع ذلك
فقد أورد ابن الجوزي أنه كتب إلى عبد الملك كتاباً يذكره فيه بالمسئولية الملقاة
على عاتقه وقد جاء فيها: أما بعد: فإنك راعٍ، وكل مسؤول عن رعيته حدثنا أنس بن مالك
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل راعٍ مسئول عن رعيته . ((اللَّهُ
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ
فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)) (النساء ، الآية : 87) .
ويقال
بأن عمر بن عبد العزيز ولاّه عمه عبد الملك خناصره لكي يتدرب على الأعمال القيادية
في وقت مبكر ، وقد قيل: إن سليمان بن عبد الملك هو الذي ولاه على خناصره، وهناك من
رجح القول وقد تأثر عمر بن عبد العزيز لموت عمه وحزن عليه حزناً عظيماً وقد خاطب
عمر ابن عمه مسلمة بن عبد الملك فقال له: يا مسلمة إني حضرت اباك لما دفن، فحملتني
عيني عند قبره فرايته قد أفضى إلى أمر من أمر الله، راعني وهالني فعاهدت الله ألا
أعمل بمثل عمله إن وليت وقد اجتهدت في ذلك
.
1 ـ ولايته على
المدينة:
في ربيع الأول من عام 87هـ ولاّه الخليفة الوليد بن عبد
الملك إمارة المدينة المنورة، ثم ضم إليه ولاية الطائف سنة 91هـ وبذلك صار والياً
على الحجاز كلها: واشترط عمر لتوليه الإمارة ثلاثة شروط:
الشرط الأول:أن يعمل في
الناس بالحق والعدل ولا يظلم أحداً ولا يجور على أحد في أخذ ما على الناس من حقوق
لبيت المال، ويترتب على ذلك أن يقل ما يرفع للخليفة من الأموال من المدينة. الشرط
الثاني: أن يسمح له بالحج في أول سنة لأن عمر كان في ذلك الوقت لم يحج.
الشرط
الثالث: أن يسمح له بالعطاء أن يخرجه للناس في المدينة فوافق الوليد على هذه
الشروط، وباشر عمر بن عبد العزيز عمله بالمدينة وفرح الناس به فرحاً شديد
.
2 ـ مجلس شورى عمر بن عبد العزيز: مجلس فقهاء المدينة
العشرة:
كان من أبرز الأعمال التي قام بها عمر بن عبد العزيز تكوينه
لمجلس الشورى بالمدينة، فعند ما جاء الناس للسلام على الأمير الجديد بالمدينة وصلى،
دعا عشرة من فقهاء المدينة، وهم عروة ابن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة،
وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة،
وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأخوه عبد الله بن
عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة وخارجه بن زيد بن ثابت، فدخلوا عليه
فجلسوا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه،
وتكونون فيه أعواناً على الحق، إني لا أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي من
حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى، أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرّج الله على من
بلغه ذلك إلا أبلغني . لقد عرفت أن عمر بن الخطاب كان يجمع المجلس للأمر يطرأ، فيرى
ضرورة الشورى فيه، أما عمر بن عبد العزيز، وهو سبط عمر بن الخطاب، فقد أحدث مجلساً،
حدّد صلاحياته بأمرين:
أ ـ أنهم أصحاب الحق في تقرير الرأي، وأنه لا يقطع أمراً
إلا برأيهم. وبذلك يكون الأمير قد تخلى عن اختصاصاته إلى هذا المجلس، الذي نسميه
((مجلس العشرة)).
ب ـ أنه جعلهم مفتشين على العمال، ورقباء على تصرفاتهم فإذا ما
اتصل بعلمهم أو بعلم أحدهم أن عاملاً ارتكب ظلامة، فعليهم أن يبلغوه وإلا فقد
استعدى الله على كاتم الحق. ونلاحظ كذلك على هذا التدبير قد تضمن أمرين:
أحدهما:
أن الأمير عمر بن عبد العزيز لم يخصص تعويضاً لمجلس العشرة لأنهم كانوا من أصحاب
العطاء، وبما أنهم فقهاء، فماندبهم إليه داخل في صلب اختصاصهم.
الثاني: إن عمر
افترض ـ غياب أحدهم عن الحضور لعذر من الأعذار ولهذا لم يشترط في تدبيره حضورهم
كلهم، وإنما قال: ((أو برأي من حضر منكم)) ، إن هذا المجلس كان يستشار في جميع
الأمور دون استثناء ، ونستنتج من هذه القصة أهمية العلماء الربانيين وعلو مكانتهم
وأنه يجب على صاحب القرار أن يدنيهم ويقربهم منه ويشاورهم في أمور الرعية، كما أنه
على العلماء أن يلتفوا حول الصالح من أصحاب القرار من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن
للمصالح وتقليل ما يمكن من المفاسد، كما أن عمر بن عبد العزيز لم يختصر في شوراه
على هؤلاء فحسب، بل كان يستشير غيرهم من علماء المدينة، كسعيد بن المسيِّب،
والزهري، وغيرهم، وكان لا يقضي في قضاء حتى يسأل سعيد، وفي المدينة أظهر عمر عبد
العزيز إجلاله للعلماء وإكباره لهم، وقد حدث أن أرسل رحمه الله تعالى رسولاً إلى
سعيد بن المسيِّب يسأله عن مسألة، وكان سعيد لا يأتي أمير ولا خليفة فأخطأ الرسول
فقال له: الأمير يدعوك، فأخذ سعيد نعليه وقام إليه في وقته، فلما رآه عمر قال له:
عزمت عليك يا أبا محمد إلا رجعت إلى مجلسك حتى يسألك رسولنا عن حاجتنا، فإنا لم
نرسله ليدعوك، ولكنه أخطأ أنما أرسلناه ليسألك ، وفي إمارته على المدينة المنورة
وسع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر من والوليد بن عبد الملك، حتى جعله
مائتي ذراعاً في مائتي ذراع، زخرفه بأمر الوليد أيضاً، مع إنه رحمه الله تعالى كان
يكره زخرفة المساجد ، ويتضح من موقف عمر بن عبد العزيز هنا أنه قد يضطر الوالي
للتجاوب مع قرارات ممن هو أعلى منه حتى وإن كان غير مقتنع بها إذا قدر أن المصلحة
في ذلك أكبر من وجوه أخرى. وفي أمارته على المدينة في سنة 91هـ حج الخليفة الوليد
بن عبد الملك فاستقبله عمر بن عبد العزيز أحسن استقبال، وشاهد الوليد بأم عينيه
الإصلاحات العظيمة التي حققها عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة
.